الإنسان يُقول ذاته .... بكلمات
من كتاب خلجات الذات الجريحة للأب يوسف جزراوي_ سيرى النور قريبًا
لستُ من محبي العزائم والولائم، وبعد إلحاح شديد لبينا طلبه، فدعانا إلى دعوة عشاء في بيته وسط هولندا. كان طيلة اللقاء شبه ساكتًا، وعلى مائدة العشاء لم ينبس بكلمة بتاتًا، وكأنني شعرت بحالي في برنامج من غير كلام! ولما انتهينا من العشاء، علقتُ قائلاً: لقد أشبعنا واتخمنا بطوننا، ولم نشبع ذاتنا، ولم نغذي فكرنا من أفكار القلب وتأملات الفكر، وزدتُ: ما لا أطيقه في هذه الحياة هو لقاءات لا غاية منها سوى الأكل والشرب. قالوا لي: هذه طبيعته، ومن عادته السكوت، فهو قليل الكلام، خجول، ليس اجتماعيًا. قلت لهم: أنا أحترم كل إنسان على تمايزهُ واختلافهُ وفردانيته، فأنا مع التنوع والتأكيد على خصوصية الفرد، ولكن طبيعته هذه يجب أن تتغير، لان الإنسان في صيرورة، والإنسان لا يولد متكلمًا، بل يصبح، متكلمًا، محاورًا، لبقًا، بليغًا، لأن الإنسان السوي هو إجتماعي في طبعه، وليس بدمية!
تحجج صاحب الدعوة، رغم إنه من أصحاب الشهادات العليا، إنه يصمت أحيانًا خوفًا من ردة فعل الآخر لما يطرحه من أفكار، أو يصمت لأن لا كلام له، أو ربّما حديثه لن يُعجب الحاضرين. ونعود هنا إلى نقطة شغلت حيزًا كبيرًا من كتاباتي ومواعظي..وهي الخوف من كلام الآخرين وردة فعلهم.
أعشق الصمت والموسيقى والهدوء والشفافية واحترام الآخر على إختلافه، والسلوك الرزين مبدأ أصيل لحياتي، ولكنني من دعاة الحوار والنقاش، حوار لا يخلوا من الطرائف والفكاهات والمعنى والإنفتاح على جديد الآخر، لذا ما لا أطيقه في هذه الحياة هو السكوت خوفًا، أو تصنعًا أو إنغلاقًا وأكتفاءًا، أو السكوت النابع من الفراغ الفكري والكياني.
قد تحمل شهادة دكتوراه، وتجيد عدة لغات، لكنك لا تعرف من أنت، وتجهل نفسك، ولا تجيد الحديث بكلمتين عميقتين والأمثلة كثيرة! أو تردد كلمات لهذا وذاك وتكون سهل الأنقياد، لان ليس لك ما تقوله، فتغدو بلا كلمة، مثل صاحبنا الذي استشهدنا به في بداية الحديث!
أؤمن أن الإنسان كلمة، وما الكلمة، سوى الإنسان يقول ذاته حبًا وإيمانًا وقناعةً وخدمةً للآخَرين. الكلمة هي أنت، لان الكلام لغة التعبير، الكلام صدى أعماق وأنعكاس لصاحبه. الكلام دليل إنفتاحنا على الآخرين واتصالنا وتحاورنا معهم، لكن أملي،بل رجائي ألاّ يكونَ الكلام لمجرد الكلام (للتسلية، لقضاء الوقت وقتله، لملئ الفراغ،للثرثرة، للطعن بالآخر وهدمه)، فبمقدورك أن تبني إنسان بكلمة وتهدمه بكلمة أيضًا، وما أقسى القتل بالكلمات! هذا لا يعني أن تزوق وتعسل كلماتك لتكون الغاية منها المجاملة والتملق والتزلف والمساومة، كلا وألف كلا، بل كلمتك هي أنت، فمن كلماتك المنطوقة والمكتوبة، ستؤسس لك هوية في هذه الحياة. فقيمتك بكلمتك وما ينطوي عليها من معاني ونيات صادقة.
وهنا خطرت ببالي إحدى بنات الرعية(الكنيسة) التي كنت أخدمها في بغداد، حيث تقيم الآن في باريس، إذ كانت ولا تزال تتصيد بروح الفكاهة مع زوجها الأخطاء الطباعية في مؤلفاتي ومقالاتي، وحينًا أخر تنتقدني بدافع الصداقة والود، لأنها تخشى من الأفكار المنفتحة الجريئة التي أطرحها التي لا يحبذ العامة أن يتطرق لها الكاهن.
قلت لها أولاً: كان من الصعب على سيّدنا المسيح، أن يُرضي جميع الناس ويقنع جميع الآراء. وليس من المعقول ولا من المقبول أن يتفق الجميع على رأي واحد، وألا لأصبحنا جميعنا متشابهون، وقتلنا التنوع، وهذا منافيًا لعمل الرب حين خلق الكون والإنسان، إذ خلقنا متنوعون، وكل شي قائم على الإختلاف.
ثانيًا: ليس من إنجاز كامل مكمّلاً، فبما أن الإنسان غير كامل، من المؤكد ستأتي أعماله غير كاملة. فالكمال لله.
لم تقتنع بوجهة نظري ولها كل الحرية، فربما هي على صواب؟ مضت الأيام وشجعتها بمعية زوجها وبعض الأصدقاء على نشر ديوانها الشعري الأول، لكنه لم يحقق أنتشارًا ولم يحقق الأهداف المرجوة، وتهالت عليها الأنتقادات من كل صوب، فتوقفت عن الكتابة. قلت لها بتوقفك هذا قد حققت غايتهم ، واصلي المسيرة، فالطفل يتعلم السير من سقطاته، والناس متباينة في آرائها، وكل شي في الحياة نسبي، لكنها عللت توقفها بأنها تخشى انتقادات الآخرين لكتاباتها، فنطبق عليها المثل القائل: " من أول غزاته أنكسرت عصاته"، فكانت أشبه بمضيفنا الذي دعانا إلى دعوة العشاء، إذ فضل السكوت على أن يساء فهمه، أو لأنه يخشى أنتقاد الآخرين لأفكاره!
لا تقل كلمة، ولا تكتب سطرًا ولا تتخذ شعارًا لك أن لم تكن مؤمنًا به، لكي لا تفقد مصداقيتك، ولا تقوم بعمل ولا تطيب خاطر الآخرين بكلمات، من باب الواجب، بل من منطلق الحبّ.
ختامًا: قارئي العزيز: لا تخشى ألا ضميرك، ولا تجعل من الآخر مقياس لك، نعم أستمع إلى إنتقادات الآخرين، تعلم منها ومنهم، لما هو خير لك وللآخرين، ولكن لا تجعل مواقف الآخرين تشلّ قواك وتطفي شمعتك، لأن النور الذي تحمله ليس ملكًا لك وحسب، بل لتضيء به درب الآخرين. فالحياة ليست ملكًا لنا، بل نحن مسئولون عن الآخر الذي نلاقيه في درب الحياة الجميل.
الأب يوسف جزراوي