صلاتنا لُغة الحُبّ
من كتاب خلجات الذات الجريحة للأب يوسف جزراوي القاهرة 2010
في عمق كل منّا حاجة قوية ومُلحة للإتصال بكائن أقوى منه ويتعدى حدوده. يسوع شعر بحاجة الصلاة، فكانت له وقفات تأمّل وصلاة وإختلاء مع أبيه. التلاميذ شعروا أيضًا بتلك الحاجة فطلبوا من معلمهم يسوع أن يعلمهم الصلاة، فكانت صلاة الأبانا (الصلاة الربّيَّة) وما أروعها من صلاة وهي كاشفة عن أبوة الله لنا.
الصلاة علاقة حبّ مع الله. وللحبّ لغة يُعبر بها الحبّ، وصلاتنا هي (لغة الحبّ) التي نتحدث بها مع الله ونعبر له عن حبنّا .
ما أجمل ان يبدأ إنساننا يومه بالصلاة ( صلاة الشكر والثقة والمجد والإستسلام لله تعالى ) والأجمل أن ينهي الإنسان أيضًا يومه بصلاة شكر، وقبل أن ينام بين يدي الله يراجع ذاته ويفحص ضميره فيعزز الإيجابيات ليسعى جاهدًا تجاوز السيئات، ثم يُصلي قائلاً: يا رب بين يديك أستودع روحي .
الصلاة وقفة تأمّل في عالم لا يعرف السكون. ومن لا يعرف أن يقف ويتأمّل ويُصلي، لم ولن يعرف النمو والتقدم الروحي..
في رياضة روحية إسطحبت بها معلمي ومعلمات التعليم المسيحي إلى أحد الأديرة في حُمْص بسوريا، وبينما كان الجميع غارقين في نوم ثقيل، وسط إجواء ليلة قارصة البرد وحالكة السواد، كان في داخلي حاجة قوية للصلاة، فنزلت إلى معبد الدير (chapel) طالبًا الخلوة والصلاة..فجلستُ لوحدي للتأمّل وسط هدوء رهيب يعجز القلم عن وصفه! فتذكرتُ عائلتي وأعز ناسي ورعيتي و..فحملتهم بصلاتي. فأدركتُ من هذه الخبرة: إن الإنسان أن كان بمفرده فهو ليس وحيدًا لمفرده! بل يحمل في قلبه الكثير والكثير من الأقرباء والأحباء والأصدقاء ..فالقلب المُحبّ لا حدود له. أنه قلب مُصلي .
في الحبّ ينسى الإنسان ذاته، وما الصلاة سوى فعل حبّ تجاه الله وفي سبيل الآخَرين. فالحبّ هو أن ينسى الإنسان أثقاله ليحمل أثقالَ الآخَرين.
الصلاة لا تكتفي بترديد كلمات معسولة وطلبات وتضرعات وطقوس جامدة، بل هي علاقة مع الله تتجسد في موقف وسلوك حياة. فصلاتنا دون أعمال تبقى جوفاء.
-طائر هو بلا عش ذلك الإنسان الذي تكون حياته خالية من الهدوء والموسيقى والتأمّل والصلاة.
كتبت الفيلسوفة سيمون فيل (weil): " أن ما هو مهم في حياتي إنَّ الله يُفكر فيَّ". لذا أقول الصلاة ليس بطول وقتها وبترديد أجمل الكلمات والطلبات والرغبات التي لا تعرف النهاية والإكتفاء؛ إنما الصلاة حوار حبّ، والمحب يعرف ما يتمناه حبيبه! لذا آمل أن يكون الله محور علاقتنا الروحية ومحور صلاتنا وليس طلباتنا وغاياتنا الشخصية.
غالبًا ما تتحول صلاتنا وسط متاعب الحياة ومُضايقات الآخَرين إلى عتاب بدافع الحبّ؛عتاب الإنسان وإلهه، عتاب الأبن لأبيه. ووسط عتاب الحبّ هذا تشعر وكأن يد الله تلامس رأسك وتقول لك: أنا معك يا بني لم ولن أتركك.
- عندما تسجد وتُغمض العينين وتفتح الذراعيين وتقول من عمق فكرك وقلبك: أرحمني يا رب أنا الخاطئ. ستعيش فرح التواضع والتوبة والغفران، فرح داخلي يبعث فيك السلام والطمانينة. فالله لكونه أب تراه يغفر خطايانا ويحتوي معاصينا، مُتفهمًا إياها بقلب أبوي ذات حبّ كبير.
الصلاة أن تكون مثلما أنت أمام الله بدون تصنع ولا تكلف ولا تمثيل لتعترف بضعفك ومحدوديتك وخطيئتك..صلاة تخرج من قلبك لتنصب في قلب الله.
في الكثير من الأوقات لا رغبة لنا في الصلاة، فتبدو صعبة أو حملاً ثقيلاً، وكأن الكلمات تقف على أبواب أفواهنا، لكننّي أدعوكم للصلاة في مثل تلك الأوقات، فاصلاتنا إنعكاسًا لذاتنا ولواقعنا ولظروفنا وظروف المحيط الذي نعيش فيه.
ما أجمل من أن تُقدم ما يجول في داخلك من هموم وأفراح ومتاعب وأفكار وأمنيات لتضعها بين يدي الله ليرعاها ويوجهك لما فيه خير لك( أطلبوا تجدوا ....)
- تنتظر الأم بفارغ الصبر وشوق كبير تلك اللحظة التي يبدأ فيها صغيرها بالنطق. وما أن بدأ بالنطق لتحلق عاليًا فرحًا وسرورًا وبهجة لتحتضنه وتقبله وتشده إليها..هكذا هو فرح الله أبينا حينما نصلي إليه.
الصلاة علاقة مع الله، والله يُعلمنا الكثير من خلال علاقتنا معه. فهو خير وأوفى صديق لا بل حامل همومنا وكاتم أسرارنا ورفيق درّبنا. وبهذا الصدد تقول القديسة تريزا الافيلية الكبيرة: "إن الصلاة حديث صداقة مع الله ، وحوار ودي مع ذلك الذي نعرف انه يحبنا، إنه حديث القلب إلى القلب".
الصلاة تضعنا وجهًا لوجه مع يسوع ليدخل حياتنا، لكنّه لن يكون مكتوف الأيدي، بل يدخل حياتنا ليغيّرنا ويغمرنا بحبّه ويعلّمنا أن نُحبّ كما هو أحبّ. فالصلاة تفتح نفوسنا نحو الرب.
الصلاة تتطلب صمت وهدوء واختلاء وموسيقى . بمعنى أن تجلس مع ذاتك وتدخل إلى عمقك. "فإذا صليت فأدخل مخدعك وأغلق بابك.." (متّى 6/6). وكذلك يقول القديس يوحنّا الذهبي الفم :" جِدوا باب قلوبكم تروا أنه الباب المؤدي لملكوت الله . فللسماء والقلب باب واحد".
- ليكن للعذراء مريم أمنا وشفيعتنا وقتًا نخصصه لإكرامها وطلب شفاعتها..وما أروعها من أُمّ. أنها شمعة تضيء دربنا، وربّما جميعنا قد أختبرنا عن كثب مواقف وخبرات وشفاعات أمنا القديسة مريم.
الصلاة لا تتقيد بلغة ما. ليست الصلاة طقوسًا وشعائرًا..بل علاقة حبّ، وحوار مفهوم يشعرك انك بحضور الله. لذا كنتُ وما زلتُ لا أبالغ بالتقدّيس بلغة الطقوس التي لا يفهمها سوى الكاهن ونفر قليل من الشمامسة. فالصلاة حوار، ولا حوار دون فهم واستيعاب. ويبقى الحوار عقيمًا وغير مُجديٍ متى كان بلغة غير مفهومة. الرب يسوع صلى للتلاميذ وصلى بين الناس في لغة كانوا يفهمونها دون أن يتعصب للغة ما، إنما جاء مُخلصًا للإنسان.
خصّص قلّما يكون ربع ساعة كلّ يوم للصلاة، وأجعل لها مكانة في حياتك. الله كله آذان صاغية لنا ولصلاتنا.إنه على أحر من الجمر للدخول معنا في علاقة من خلال صلاة الحبّ.