من هو المُثقف؟
من كتاب خلجات الذات الجريحة للأب يوسف جزراوي
ليس المثقف هو الذي نراه ونظنه ثرًا في معلوماته.
وليس المثقف بعالمٍ وصاحب شهادات، يجيد عدة لغات، فالبغبغاء بإمكانه أن يجيد ويردد أكثر من لغة.
المثقف هو الذي يشعر في أعماقه بأنه في حالة جوع معرفي وإنساني وحياتي. المثقف هو الذي قد اختبر الحياة وأستوعب ما هو جوهري فيها.
المثقف ليس بمن إكتفى بنفسه وبدأ ينظر إلى الآخرين من برجه العاجي على أنهم أقزام وبراعم!
المثقف هو الذي تراه في عملية بحث متواصل عن الحقيقة، لأن حقيقته نسبية ناقصة.
ليس المثقف من قال: أنا دكتور ولدي شهادات عليا وأختصاصات لا تحصى , وليس كل من تكلم بأكثر من لغة عالمية فهو مثقف. المثقف هو الذي يمتلك القُدرة على تقبّل الرأي الآخر حتّى وأن كان مُختلفًا عنه ومُخالفًا له.
المثقف هو الذي ينظر إلى الآخرين ومعطياتهم الحياتية و طروحاتهم الفكرية والثقافية بعين التقبّل والإستقبال، المثقف هو الذي يمتلك أفاقًا واسعة رحبة، ويجيد فن إدارة الإختلاف والتحاور بشفافية مع المُختلفين مع قناعاته، بحيث لا يحول الإختلاف إلى خلاف.
المثقف، هو الذي تراه مُنفتحًا على طروحات الآخرين المفيدة، متقبلاً أفكار الآخر على إختلافها، دون أنتقاص وأستهزاء وتشويه ومحاربة،ساعيًا للتكامل معه. المثقف هو الذي لا يعرف الإكتفاء على الصعيد الفكري والروحي والثقافي والحياتي والإنساني.
اوالمثقف ليس بمن يظن بنفسه أنه قائد الضرورة، وأنه المثقف الوحيد وكل الذين كانوا قبله وبعده جهلة مُشعوذين. أو يتغنى بالمقولة القائلة: أنا المُفكر الوحيد وبعدي الطوفان!
عالمنا مليء بشخصيات عديدة حائزة على أعلى الشهادات ، شخصيات تعلمت في أفضل الجامعات، لكنّهم يفتقدون إلى فن التعامل مع الآخر. وكَم من ضحل المعلومات ومحدود الفكر والأفاق، لكنّه محسوب على المُثقفين، لأنه قد درس في الغرب ولديه شهادة دكتوراه..
سلوكك مع الآخر وحواراتك معه هي بمثابة مرآة عاكسة لثقافتك وخبراتك ونضوجك وعمقك.
كثيرون يدعون الثقافة، ولكنّهم لم يكتبوا كلمة ولم يفيدوا الآخرين من ما حصدوه وتعلموه من معرفة ومن خبرات، بل تراهم رجعيين في السلوك، ويعيشون أكذوبة نفخ الذات.فاتسأل بدوري أي عمق هذا؟ وأي ثقافة هذه أن لم تكن في خدمة الصالح العام؟!
وبالنسبة إليَّ شخصيًا أحترم جدًا من يحاول مسك القلم ومحاولة انجاز أي مجهود فكري وإنساني يستفيد منه الآخرون.
كَم من عامل بسيط يمتهن مهنة صعبة أو غير لائقة بسبب الحاجة أو الظروف، لكنك تجده أثقف من أولئك الذين يدعون الشهادات والثقافة، ولديه أيضًا من سعة الصدر ما يجعله يتقبل الرأي الآخر حتّى لو كان مُضادًا لرأيه.
كَم هناك من شخصيات تدعي الثقافة لكونها صاحبة الشهادة الفلانية ، و لكنك تجدها تتهجم وتنتقد وتجرح ويتخون. وكم من خريج تجده عنيف السلوك، قاسي الكلمات، حاد النظرات، صدره أضيق من ثقب الأبرة، وعقله صغير، مُتمسكًا بصغائر الأمور.. والمُشكلة يلقبون أنفسهم بالمثقفين!!
المُثقف هو من يستطيع تحرير نفسه وفكره من نظراته السابقة، ويرفض أن يرى الآخر في ماضيه، لأنه في تجديد متواصل ودائم.
كم من الذين يدعون الثقافة وهم مُتشددين مُتعصبين، يرفضون تجديد نظرتهم وأرائهم، والإنفتاح على روح العصر، وعصرنة القديم.
ختامًا: ليس من قبيل المُغالاة أن قلتُ: أننا نُعاني اليوم من أزمة فكر ومُفكرين، ولدينا شحة في الُمثقفين. ولو كان لنا كل هذا لما تشرذمنا وتناحرنا على أبسط الأمور!بإمكانك أن تكون مُتعلمًا ومن أصحاب الشهادات، وتجيد أكثر من لغة، لكنك وحشٌ في سلوكك الحياتي. الثقافة تؤنسن الإنسان وتجعله في قمة الرقي الإنساني.
تسأل هل أنت أنساني؟ أن كان الجواب نعم. فأنت مثقف. وأن كان لا. فاتسائل ما الفائدة من علمك ودراستك أن كنت وحشًا مع الآخرين؟!