كلنا مُهاجرون
حدثوني أولاده وطلبوا مني أقناعه على الهجرة والرحيل معهم إلى أمريكا، لأن الحياة المُستقرة الآمنة أنعدمت في بلدهم الأم، وهم سكان البلد الأصليين! لكن شخينا الجليل رفض أن يترك العراق ويرحل بحجة هذه أرضنا؛أرض الأجداد والإيمان.
نعم أنه على صواب وهذا رأيه، علينا أحترامه، لكنّني بدأت أوضح له قائلاً: يا عم، نحن كمسيحيين ليس لنا أرض مُحددة، ثابتة، أرضنا حيث تكون رسالتنا. الرب يسوع لم يكن له موضع يسند عليه رأسه، كان مواطن بلا وطن، أوصانا قائلا:" أذهبوا وبشروا وتلمذوا جميع الأمم..". إذًا أرضنا حيث تكون بشارتنا وعيشنا الإنجيل، المسيحي الحقيقي هو في رحيل دائم. والأوطان من صنع الإنسان، الرب حينما خلق آدم وحواء، لم يسمي لهما وطنًا، بل وهب لهما أرضًا.
صدقني يا عم أن الوطن تسمية مُختلقة، والحدود ليست ألا حواجز مُصطنعة لم يكن لها وجود في البدء، فالإنسان لو ولد في روما لكان انتمائه لايطاليا، ولو كان قد ولد في الصين لكان أنتمائه للصين، وهكذا سيكون الحال لو أبصر النور في المريخ! لذا أقول وطنك ليس حيث تولد وحسب، بل حيث تنمو وتستقر وتحقق ذاتك وتعيش رسالتك وحياتك بكرامة وأطمئنان وحرية مسؤولة، فليس للإنسان وطن ثابت غير السماء. الرحيل خير لنا من أن نُقتل ونُشرد ونُهجر...ربنّا يسوع بحد ذاته عندما رفضوه وحاربوه وحاولوا قتله هرب إلى نواحي صور وصيدا فإلتقى المرأة الكنعانية وهُناك بشرَ من جديد برسالة الرب !"ثم خرج يسوع من هناك (من أورشليم ومحيطها)وأنصرف إلى نواحي صور وصيدا"(متّى 15: 21..).
وهو نفسه دعنا أن ندخل المدن ونلقي عليها السلام (البشرى) وإذا رفضونا فقط ننفض تراب أقدامنا ونرحل إلى مدن أخرى. بمعنى أنه يدعونا ألا نتعلق بالأرض، بل نتمسك برسالتنا ومسيحيتنا وإنجيلنا.
وبعد جهد جهيد أقتنع الرجل وشد الرحال وهاجر إلى أمريكا، وحسنًا ما فعل! وهو اليوم أحد الشماسة في (سان ديغو) يعيش رسالته في أمريكا من خلال خدمة المذبح ومساعدة المهاجرين الجدد.. بعد أن كان قد تعذر عليه عيش مسيحيته في وطنه الأم. وهذا ما أراه عين الحكمة والفطنة ( أ لم يقل يسوع كونوا حكماء كالحيات) وإذا رفضوكم فقط أنفضوا الغبار من أقدامكم. إذا كلام يسوع صريح وواضح لا يدعونا إلى التعلق بالارض بل التمسك بالرسالة.
عندما دخلت سمنير الكلدان القسم التحضيري سنة منتصف شهر أيلول 1995، ساعيًا في طلب الكهنوت، شعرتُ وقتذاك وكأنني مُهاجر لعالم ثاني، عالم سلخني من كياني وكل ما أنا مُتعلق به، ولعل أولى تلك الأشياء عائلتي. وهكذا كان شُعوري عندما أقتبلت نعمة الكهنوت وخدمتُ في أول كنيسة ثم أنتقلت للخدمة في كنيسة أخرى، إذ ظللتُ أشعر في قرارة نفسي أنني أفتقد تلك الجماعة التي خدمتها وشكلت معهم عائلة الرعية. وهكذا هو أيضًا حال الفتاة عندما تتزوج، فهي تترك بيت أهلها لتشد الرحال إلى بيت زوجها، لتبدأ حياة جديدة ومُختلفة بالعادات والتقاليد والأشخاص. والموظف يعاني أيضًا ذات الشعور عندما ينتقل من وظيفة إلى أخرى. وهكذا حال أفراد العائلة عندما ينتقلون من دار إلى دار أخر، كل شيء يبدو لهم جديد( المدينة-الجيران- الأسواق..)،فيشعرون بالغربة. وإنساننا عندما يهجر ذاته، يشعر أنه غريب عن هذا العالم وعن نفسه، وهكذا هو حال الأبن عندما يترك بيت أبيه ليكمل حياته مع زوجته في بيت مُستقل. كلنا في الحياة مهاجرون بشكل أو بأخر، فكلِّ مرحلة من مراحل حياتنا تحمل في طياتها هجرة.
ونختم هذه الخلجة بنقطتين جوهريتين:
الأولى: لكل منّا رأيه وقناعاته فيما يخص الهجرة،وكل الآراء مُحترمة وفيها شيء من الصحة. لكنّني لستُ مع من ينتقدون كل الذين هاجروا طوعًا أو قسرًا، لذا لا تلوموا الآخرين إذا هربوا يبحثون عن عيش رسالتهم ويبغون حياة يتنعم بها أولادهم بحياة إنسانية كريمة ليعيشوا إنسانيتهم ومسيحيتهم دون خوف ومُضايقات.
ولنطرح هنا بعض التساؤلات علّها تُنير البصيرة وتوسع الأفاق:هل يجب أن يموت كل مسيحيو العراق أو يختطفوا أو يعيشوا بمضايقات وتنازلات كبرى بحجة التمسك بالأرض؟ الأرض وجدت لأجل الإنسان وليس الإنسان من أجل الأرض. الإنسان أبن الله، وأراضي الله واسعة، ويسوع المسيح نختبره ونلتقيه في كل أرض. بل أنه أبن البشرية والأوطان كلها.
الكنيسة في العراق قدمت الكثير من الشهداء من الأكليروس ومن الشعب، هل توقف التهجير والقتل والأغتصاب والتهديد..؟ من المؤكد لا؟
لذا أقول:الهجرة ليست هروبًا، بل حفاظًا على الحياة وأنقاذ ما يمكن أنقاذه.
ثانيًا: كم مِن مواطن يشعر بالغربة في بلده ووطنه وأرضه؟! الغربة لا تعني الهجرة من أرضك وبلدك والرحيل والتغرب، فبوسعك أن تكون في وطنك، بين أهلك، عائلتك، زوجتك،أولادك، وظيفتك... وتشعر بالغربة! ولعل هذا ما يشعر به الكثير من أبناء كنيسة المسيح في عراق الحرية والديمقراطية كما يطيب لهم أن يسموه!!
بعض الكتّاب الذين يسمونهم بالقوميين تركوا العراق خوفًا على عائلتهم ومستقبل أولادهم، يتنعمون اليوم برعاية الدول الأوربية، ويطالبون أخوتهم في العراق أن يتمسكوا بالأرض. أليس الأجدر بهم العودة إلى العراق ليطبقوا ما يطالبونه من أخوتهم المغلوب على آمرهم؟
ختامًا: كلنا مهاجرون بشكل وبآخر....و لكن لا أقسى من غربة الذات التي تقود إلى الغربة في الحياة.