ذاتُها أعز صديقة....
تعرفتُ عليها في لقاء مثقفين عراقيين وعرب في دمشق، أُعجبتُ كثيرًا بأفكارها وطريقة طرحها لآرائها، وبما كانت تمتلكه من قناعات ذاتية عن ذاتها وعن المرأة..حيث سعت جاهدة لتقول للجميع:"إن المرأة ليست كائنًا مخلوقـًا للزواج فقط، بل خُلِقت لتحقق ذاتها وتشرق به إنسانيًا للآخَرين ...وقد يكون الزواج أمرًا مُهمًا لها؛ لكنّه ليس كل شي!". ومن دون سابق إنذار تعصف بنا إحدى الحاضرات معنا، لتُعارض وتقطع الحديث قائلة:"كفى مثاليات، كفاكم شعارات.." وتتركك قاعة الإجتماع! حينها دهشتُ من سلوكها المُفاجئ هذا، وأنتابني شعور غريب لا تستطيع الكلمات وصفه! ولما خرجنا لنحتسي الشاي ونأخذ قسطًا من الراحة، دفعني الفضول للتقرب من زميلتنا الثائرة وعرّفتُها عن نفسي، وسألتها مُستغربًا عن سبب موقفها وأنفعالها!؟ فعللت الأمر بأنها تذكرت أعز صديقاتها التي تُعاني اليوم من أزمة نفسية وإجتماعية، بسبب دخولها مرحلة العنوسة بعد أن فاتها قطار العمر، وهي الآن في مطلع الأربعينيات من رحلة الحياة، ولم تتزوج وترتبط بشريك الحياة، فظلّت وحيدة، تعيش في عزلة ووحدة خانقة.
تطلعتُ إلى عينيّها وتفرست بها جيدًا، فأدركتُ إنها تتحدث عن ذاتها فذاتها أعز صديق! طلبتُ إليها أن تُكمل الحديث، ولما أسترسَلت بعرض قصة صديقتها (ذاتها)، شعرتُ حينذاك بحزن ثقيل بدأ يخنق أنفاسي، فقاطعتُ كلامها قائلاً: يفقد الأمل من قد وضع هدف حياته في أمر ما ولم يتمكن من تحقيقه. حينها راحت تنهمر من عينيها الدموع وتسيل كالأنهار....فغادرت المكان، ولم تُكمل اللقاء.
ولما أنهينا وأنتهينا من لقائنا، ذهبتُ للسير مع ذاتي في شوارع باب توما والقصاع في الشام، التي قضيتُ فيها أجمل سنوات حياتي. وعندما عدتُ لمكتبتي حبرتُ هذه الكلمات، عند بزوغ الفجر على إيقاعات موسيقى الموسيقار المصري عمر خيرت.
ضحية هي أختنا هذه، فمنذ نعومة أظافرها قالوا لها وأفهموا بأنها خلقت للزواج والإنجاب، لا بل حشوا دماغها وذاتها، إنها لم ولن تُسعد وتحقق ذاتها خارج إطار الزواج. وسعادتها تكمن في الأمومة، وفي ظل حماية رجل تتعكز عليه( يستُر عليها)!! فحلمت أختنا وانتظرت وصبرت طويلاً ليتحقق هدفها في الزواج، لكنّه لم يتحقق، والزواج لم يأتِ إلى يوم لقائي ومعرفتي بها، وباتت في العقد الرابع من العمر، وفقدت القدرة على الإنجاب بسبب كبر السنّ. فأصيبت بأزمة نفسية، وأصبح الزواج عقدة وهاجس لها، بل مُشكلتها الكُبرى! وأخذت تنظر إلى ذاتها نظرة سلّبية، لأنها لم تتزوج مثل سائر صديقاتها، ولم يكن لها أطفال وعائلة..إنها ضحية تربية بدائية.
أختم بنقطتين:
الأولى: المرأة رمز لجمالية الحياة، فهي زينتُها. خُلِقت لتُحقق ذاتها وتعيش إنسانيتها، لتصنع من حياتها هدفًا ومشروعًا، كما أنها لم ولن تُخلق وتتواجد في الحياة لغرض الجنس وتربية الأطفال وتنظيف البيت ولتكون أداة متعة، وليست هي بناقصة الفكر والوعي..أو حمل ثقيل على العائلة، ومُصيبة وبلية وكلّ مصائب الدنيا بسببها، لأنها هي من أغرت آدم وأسقطته في الخطيئة، ولا بدّ من أن تتستر في زواج، لتكون بين جناحي رجل.
هُناك من الرجال ينظرون إلى المرأة على أنها جسد ومظهر حسن، وهي في أول الأمر وأخره رفيقة فراش. هذا ولغيره من الأسباب دفع بالفرنسيين للقول عن المرأة الشرقية: "أنها تُفضِّل أن تكون جميلة أكثر من أن تكون ذكية، لأنها تعلم أن الرجل في مجتمعها يرى بعينيه أكثر مما يفكر بعقله!".
أملي أن تنظر المرأة إلى ذاتها خارج تلك المفاهيم البالية، القديمة، الظالمة، وأن تعي ذاتها ورسالتها وغاية وجودها. فمتى وعت ذاتها ستنتج وستبدع وستتخلص من شرنقة العادات والتقاليد الظالمة والمُكبلة لها، المُتوارثة في التربية الشرقية. ولنستشهد بنساء صنعنَّ من ذواتهنَّ طاقات وجودية دون أن يكونَّ متزوجات، أمثال الطوباوية تريزا أُمّ الفُقراء، وسيّدة الغناء العربي أمّ كلثوم والموسيقية النرويجية مينا هويد، والأمريكية هيلين كلير Helen Keller أمّ المكفوفين التي لم تستسلم لعجزها، بل وقفت في وجهه ندًا قويًا وصنعت من ذاتها معجزة حياة. ومن أهم الكُتب في تاريخ الأدب العالمي هو كتابها المُسمى "أضواء في ظلامي" الذي لخصتهُ بجملة رائعة وشهيرة:"عندما يُغلق باب السعادة يُفتح آخر، ولكن في كثير من الأحيان ننظر طويلاً إلى الأبواب المغلقة، بحيث لا نرى الأبواب التي فُتحت لنا".
ثانيًا: أتمنى من الآباء والأُمهات ألاّ يُسيّروا أولادهم بحسب طرقهم ويعاملوهم وفق أهوائهم، فيعملون على تنشئتهم وفق أساليب لم تعد صالحة ومُتكيفة مع عالمنا اليوم، فيفرضون عليهم قناعات وأساليب ربما قد أكل الزمان عليها وشرب، وبذلك سيعملون على إفراغ أولادهم من شخصيتهم، محاولين أن يجعلوهم نسخة منهم في التفكير والسلوك.
وأملي أن يواكبوا العصر ويستقروا واقع الحياة لتنشئة أولادهم بطرق عصرية بعيدًا عن الاجترار لتنشئة الماضي والتي تحمل الكثير من المفاهيم المغلوطة..فينعكس صداها في المستقبل على أولادهم كما حصل مع أختنا اليائسة.
الأب يوسف جزراوي