قهوة على الحائط
الأب يوسف جزراوي
[color:8673=blue]في أذار 2008 وفي مدينة البندقية الإيطالية الجميلة، وفي ناحية من نواحي أزقتها النائية كُنا أربعة عراقيين نحتسي قهوتنا في أحد المطاعم فجلس إلى جانبنا شخصٌ وقال للخادم (النادل- الكرسون-البوي) إثنان قهوة من فضلك، واحد منهما على الحائط. فأحضر الخادم له فنجان قهوة وشربه صاحبنا، لكنّه دفع ثمن فنجانين..! وعندما خرج الرجل قام الخادم بتثبيت ورقة على الحائط مكتوب فيها فنجان قهوة واحد!
ابتسمتُ في سري وبدأتُ أتمتم مع نفسي قائلاً: من المحتمل إنه مجنون أو سيأتي في وقت آخر ويحتسي الفنجان الثاني؟!! وبصوتٍ مسموعٍ تمتمَ أحد الأصدقاء: أ رأيتم هذه هي أوربا وهذه إيطاليا ( عيش وشوف، قهوة عل حائط....حتى القهوة لم تسلم منهم)!
لم تمر إلا دقائق ليدخل شخصين وطلبا (3) فناجين قهوة، واحد منهم على الحائط! فأحضر الخادم لهما فنجانين فشرباهما ودفعا ثمن (3) فناجين وخرجا..! فما كان من الخادم إلاّ أن قام بتثبيت ورقة على الحائط مكتوب فيها فنجان قهوة واحد..!؟
لم يتماسك مُضيفنا نفسه وطلب منا الإنصراف، لأن المطعم بما فيه مجانين ولو بقينا 5 دقائق أُخرى سنُصاب بالجنون نحن أيضًا!!
وفي أحد المرات كنا في نفس المطعم للعشاء، وبعد العشاء أحتسينا 4 فناجين من القهوة العربية، وما اطيبها من قهوة! فدخل شخصٌ يبدو عليه الفقر، فقال للخادم: "من فضلك فنجان قهوة من على الحائط..". (علق أحد الجالسون معنا بالهجة العراقية قائلاً: أشتغلت رحمة الله من جديد)! ولم تمضِ دقيقة واحدة ليحضر له الخادم فنجان قهوة، فشربه وخرج بثقة من غير أن يدفع ثمنه. تطلعنا إلى بعضنا البعض مندهشين من سلوك هذا الفقير! لأنه خرج دون أن يتحاسب. حينها علق والد صديقي(ماذا قلت لكم...!هذه هي أوربا، حرامية - سراق، يسرقون الكحل من العين بوضوح الشمس).
خرج الرجل الفقير بثقة أمام أنظار الخادم ولم يحاسبه هذا الأخير قط أو يسأله عن الحساب!! وإلا بالخادم يذهب إلى الحائط وأنزل منه واحدة من الأوراق المُعلقة ورماها في سلة المُهملات! ثم تقدم نحو طاولتنا وحدثنا بعربية مصرية قائلاً: أ فهمتم الآن ما معنى قهوة على الحائط؟! ثم أبتسم وأضاف: هذه أوربا ياعم، يا ليت تتعلم منها بُلداننا. ثم أنصرف يُكمل خدمته بفرح.
حينها فهمنا ما معنى فنجان قهوة على الحائط، فشعرنا بوخز الضمير وخجلنا من أنفسنا، فعلق زميلنا قائلاً: (عمي أوادم مو بديهم). ثم دفعنا فاتورة العشاء وثمن 5 فناجين قهوة ، واحد منهم على الحائط!
حقيقةً تأثرنا جدًا لهذا التصرف الرائع والإنساني من سكان هذه المدينة والتي تعكس واحدة من أرقى أنواع التعاون الإنساني. وأن إحترامهم وتقيمهم للإنسان من الممكن أن يلمسه المرء من فنجان قهوة! يا لسعادة الإنسان في هذه البلدان!
الحكمة : لا أجمل من أن تجد مَن يُفكر بأن هناك أناسًا لا يملكون ثمن الطعام والشراب، ونرى الخادم يقوم بدور الوسيط بينهما بسعادة بالغة وبوجه طلق!
ونرى أيضًا المحتاج يدخل المقهى وبدون أن يسأل هل لي بفنجان قهوة، فبنظره منه للحائط يعرف أنَّ بإمكانه أن يطلب من دون أن يعرف من تبرع به.
الإنسان الحق، هو الذي يشعر بحاجة الآخر.