رحلة إلى الفردوس الأرضي
عميق الإنسانية، طيب المعشر، يتأثر لألم الناس، عندما يلتقيك تشع الإبتسامة من وجنتيه ويستقبلك بالأحضان،يصافحك بحرارة، فالقبلات بين الرجال محظورة في الغرب، راقي السلوك، يفيض بالحنان والطيبة،وطيبته كطيبة طعم الفاكهة الطازجة. لكن بعض أبناء جدلتي كانوا دائما يقللون من شأنه وينظرون إليه من منظار العنصرية والسخرية الذاتية وينعتوه باللهجة العراقية(خنثي-كيكي-عاطفي- ليس برجل..). قلتُ لهم: ليست المُشكلة فيه، بل في تنشئتكم التي علمتكم أن الرجولة تكمن في قوة وصلابة وخشونة السلوك، ثم عدلتُ عن رأيي وقلتُ لهم مزاحًا: كلا المشكلة فيكم أنتم حصرًا، ربع حياتك انقضت في هولندا ولم تتغيّروا وتحلقوا فوق عقلية الرجل الشرقي....لا أُريد الولوج في تفاصيل الموضوع، لكي لا نُدخل القارئ في متاهات قد تبعده عن صلب الموضوع. فقط أركز على نقطة مهمة، وهي تُعد واحدة من أهم خلجات ذاتي: ليس من الصواب أن نقول " المرأة جنس لطيف، والرجل جنس خشن" هذه فقط أنطباعات وتصورات شرقية، نابعة من ذهنية تنص على أن الرجولة بطولة تكمن في الخشونة والقساوة، وعقلية (أنا رجل) والرجل بكبر شاربه وطول ذقنه وشدة عنفه، ولكن صدقوني الإنسان الحق هو الإنسان الشفاف، اللطيف، الطيب.
أردتُ معرفة سرّ شفافية العم أنطون ونجاحه في سلوكه ذو الحس الإنساني، فأجابني ببساطته المعهودة: بوسعك أن تسير نصف ساعة يوميًا وتتأمل الطبيعة، وأستنشق بين الفينة والأخرى نفسًا عميقًا..حينذاك ستتعرف على الجواب مليًا.
وذات يوم كنتُ على غير عادتي، أشتد الحزن عليَّ وضاق صدري،ففضلتُ غلق هاتفي وعدم مُقابلة أي شخص، لكي لا أجرح أو أسيئ إلى شخص بكلمة أو بسلوك، لأن الإنسان في سلوكه يعكس ما يختلج في داخله، فهناك أوقات ربّما جميعنا قد أختبرها، أن الإنسان فيها لا يطيق نفسه! والحكمة تقول:لا يجرح ألا المجروح ولا يؤلم ألا المتألم، من هذا المُنطلق فضلتُ الإختلاء مع النفس..
منظر الأوراق الصفراء المُتساقطة من الإشجار بكل عفوية وحرية، كان يُزين شوارع وغابات وحدائق هولندا، فأزدادت بها جمالاً ورونقًا، فوجدتُ نفسي أسير وحيدًا، بعيدًا عن مشاكل الناس وطلباتهم التي لا تعرف الإكتفاء، وبعيدًا عن القراءة والكتابة والموسيقى والدراسة، ورميتُ خلف ظهري كل أحلامي وطموحاتي وهمومي ومسراتي، قاطعًا أي اتصال بعالمي الداخلي والخارجي، وكأنني في أجازة من الذات، وبدأت أستمع إلى موسيقى صوت الحياة وجمال الطبيعة. وما أعذبها من موسيقى.
أوراق صفراء تلون الشوارع، وهدوء تام في ليل أشبه بليل المتصوفين، فأنطربت نفسي لأصوات حفيف الأشجار وخرير المياه وترنيم الطيور. كنتُ أتحدث بصمت العيون مع الطبيعة، حينها أنتابني أرتياح يعجز القلم عن وصفه! وقبل أن أعود إلى صومعتي عرجتُ إلى العم أنطون، وأدرك بلمحة واحدة من طرف عيني، ما عجز اللسان عن النطق به، فلغة العيون تمتلك من قوة التعبير أكثر مما يملكه أفصح الشعراء والمتكلمين والكتّاب.
رحلة في الطبيعة بعيدًا عن زحمة الناس والعمل، والكتابة، وبعيدًا عن مشاكل الحياة ومنغصاتها، رحلة أستأصلت من ذاتي كل أرهاق وتوتر وحزن، لتغمرني بسلام باطني، يفوح منه عبير الرجاء والحبّ والشفافية.
كانت رحلة مُميزة قادتني إلى الفردوس الأرضي بعيدًا عن زحمة الحياة والإنسان... فبتُ من المُدمنين عليها. جربوها بحبّ، ستربحون ربحًا وفيرًا، وأذكروا العم أنطون في صلاتكم.