مسيحيو العراق أقلية أم جودة ونوعية؟
أنهيتُ الحلقة الدراسية( الكورس) مُتعبًا، ولكن بنجاح، والشكر للرب يسوع، فعزمتُ على الجلوس لوحدي، طالبًا الهدوء والأسترخاء في مقهى الجامعة(الكافتريا)، وما أن شرعت بإحتساء القهوة الهولندية العديمة المذاق، قصدني أحد الطلبة العرب بغية التعرف عليّ. ولمِا لا! فسألني: "الأخ عراقي؟". فأجبته: نعم أنا كاهن عراقي أستعد للدراسة هنا. لم يفهم مصطلح كاهن. فأوضحت له: أنا مسيحي عراقي(قسيس). فأجابني على الفور: "تقصد من الأقليات العراقية". أبتسمتُ فأجبته: في أي دار أوبرا أو موسيقى، تجد إن الفرقة الموسيقية تتكون من عدد من العازفين الذي يعزفزن على الآت مُختلفة ومُتنوعة، وغالبًا ما يفوق عدد عازفي الكمان والسيلو(الجلو) والفلوت.. عدد عازفي البيانو والدرامس، ولكن أتعلم أن عازف الأدرامس ( الأقلية) هو العامود الفقري للفرقة الموسيقية! ولولاه لفقدت الفرقة إتزانها! وأتعلم أن قائد الفرقة( الدولة) بحركاته وأيعازاته وكفاءته ونظراته يقود الفرقة المُتعددة بتناغم. حينها فهم زميلنا السائل الغاية من هذا المثل، وبدأت أوضح له نحن كمسيحيين في العراق أقلية عددية، لكن لنا ثقلنا الثقافي والحضاري في كل ميادين المجتمع. فأعطاني كل الحق.
من الكلمات التي تخدش أذناي، ومن الأمور التي لا تستطيبها ذاتي هي تسمية "الأقلية". يا ترى ما هو مفهوم الأقلية؟ تُعرف اللجنة الفرعية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة الأقليات بأنها "جماعات متوطنة في المجتمع تتمتع بتقاليد خاصة وخصائص إثنية أو دينية أو لغوية مُعينة تختلف بشكل واضح عن تلك الموجودة لدى بقية السكان في مجتمع ما وترغب في دوام المُحافظة عليها". كما تُعرف الموسوعة الدولية للعلوم الإجتماعية الأقلية بأنها "جماعة من الأفراد الذين يتميزون عن بقية أفراد المجتمع عرقيًا أو قوميًا أو دينيًا أو لغويًا، وهم يعانون من نقص نسبي في القوة، ومن ثم يخضعون لبعض أنواع الإستعباد والإضطهاد والمعاملة التمييزية".
مصطلح الأقلية مصطلح أستفزازي!
إن مُطلح الأقلية مفهوم استفزازي، بمعنى أنه مُثير للتمايز ويقوي الشعور بالأستلاب والاغتراب داخل الوطن،ويبعث إلى الخوف من ظلم وإبتلاع الأكثرية. فمن جهة الأكثرية يُعطيهم مُصطلح ( الأقلية) الشعور بالفوقية والنرجسية، وهم قوة ساحة على كل الأصعدة ويتسيدون عليهم لكثرتهم، وهم من يتصدقون على الأقليات الذين يختلفون ويتمايزون عنهم قوميًا أو دينيًا أو لغويًا. ومن جهة أخرى هذا التمايز والإختلاف يولد لدى الأكثرية خوفًا، يكون نهايته الرفض أو المُحاربة، أو صهر الأقليات لأنهم مُختلفين عنهم! إذ إننا في العراق العظيم لم نتنشأ على إحترام الآخر وقبوله على إختلافه وتنوعه، وعندنا مفهوم الإختلاف يدور في خانة الخلاف، ولا يصب في إتجاه الإتلاف والوحدة والتناغم رغم التنوع والتعددية. لذا نسمع من سياسي العراق يقولون: "نحن نهدف إلى العيش المُشترك بين كل مكونات الشعب العراقي وبضمنهم الأقليات". نفهم من هذا أنه لا يوجد عيش مُشترك بمعناه الحضاري الصحيح، السليم؟ كما أنهم لا يتسألون: أي نوع من التعايش يريدون؟! وعن أيّة أقليات يتحدثون؟ عن أقليات من الناحية الرقمية أو أقلية في الإسهام الحضاري؟
إن عبارة الأقلية تولد الإحساس بالدونية والضعف والقلق على الذات والمستقبل، وتعمق الرغبة في الاحتياط من خطر الذوبان، أو الابتلاع أو الأضطهاد. كما أنه محفز للبحث عن تميز، أو طلب ملجأ أو حماية داخلية أو خارجية. لذلك لم يكن مُستغربًا أن يُتخذ من قضية الأقليات (مُطية أو ذريعة) يستخدمها سياسيو العراق ساعة ما يحلو لهم، فيظهرون على شاشات التلفاز ويتكلمون ويدافعون عن حقوق الأقليات المُنتقصة أو المنتهكة، المُغتصبة، ويطالبون بتحقيق دولي لكل الجرائم التي وقعت بهم!! ولكن أليسوا هم أصحاب السلطة والقانون كما يدعون، وبيدهم حماية الشعب؟!! أوَاليس حماية المواطنيين من مسؤولية الدولة؟ أوَاليس مناهج التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات هو من خطط الدولة العراقية؟ فلماذا لا يبشرون بثقافة قبول المختلف والتعايش على أساس المواطنة والكفأة في مؤسساتهم التعليمية والثقافية بعيدًا عن مفهوم الأكثرية والأقلية؟ لماذا يضعون مناهج دراسية تُفرّق وتمزّق.. ثم يظهرون على شاشات التلفاز وينادون بالوحدة والمساؤاة؟ أليسوا هم من عاشوا سنوات طوال في دول الغرب، فلماذا لا يطبقون ما تعلموه في البلدان الذين يحملون جناسيها؟!!
المسيحيون أقلية عددية وليس أقلية إنجاز ثقافي
أسهم المسيحيون العراقيون( الأقلية كما يحلو للكثير تسميتهم) قديمًا وحديثًا في صناعة تاريخ وثقافة العراق والوطن العربي والعالم أجمع. ولعبوا دورًا مُهمًا وفعالاً في مجالات شتى، منها السياسية والعلمية والثقافية. إذ ساهموا بنشر حركة الترجمة والنقل، وترجموا العديد من كتب الطب والفلسفة من السريانية واليونانية إلى العربية.
معظم أطباء خلفاء الدولة العباسية كانوا من المسيحيين، وبيت الحكمة العراقي كان يرأسه العديد من المسيحيين العراقيين الذين أسهموا إسهامًا فعالاً في الرصيد الحضاري العراقي والأقليمي والعربي والعالمي. ناهيك عن عملهم في التدوين ودواوين الخلافة والعمل في البيمارسانات( المُستشفيات).
المسيحيون العراقيون أقلية عددية ولكن إسهامهم ودورهم الروحي والثقافي كان ولا يزال له دورًا خلاّقًا يمتاز بثقله ووزنه.
وفي التاريخ الحديث والمُعاصر لعب مسيحو العراق دورًا كبيرًا في الصحف واللغة والتراث والفلسفة والطب والعلوم ، ونذكر هنا بعض الأسماء التي لها ثقلها ووزنها وبصمت بصمة مؤثرة في التاريخ العراقي الحديث. فمَن منا يجهل المطران سليمان الصائغ والأب انستاس الكرملي، والأخوين كوركيس وميخائيل عواد.
ومَن ينسى دور مطبعة وجريدة "الأخبار" لصاحبها جبران ملكون. ومن لا يذكر مطبعة الآباء الدومنيكان في الموصل. وهل لنا أن نسى شخصيات مثمرة مثل بطرس جزراوي وبطرس رسام، وأطباء مثل الأخوين وليد وشوقي غزالة وعماد سرسم ومظفر الكُركجي..، والوزير يوسف غنيمة، وفي الموسيقى الأب فيليب هيلايي والموسيقي مُنير بشير وجميل بشير وحنا بطرس والموسيقار رائد جورج.. ومن ينسى بيت معمار باشي في الموصل الذين كانوا يجيدون البناء والنقارة. ويشهد الكثير لما قدمته مدرسة شمعون الصفا في الموصل ومدرسة المكاسب وثانوية دجلة في بغداد.
ولا يفوتنا أن نذكر الأستاذ بهنام حبابة والباحث بنيامين حدّاد والآثاري بهنام أبو الصوف... والموسيقي فائز ميناس..
وكنسيًا من ينسى البطريرك شيخو ومواقفه البطولية، والبطريرك بيداويد والإنفتاح والتجدد الكنسي الذي قام به، وهو أول من أوعز إلى الأب حبي وغيره بتأسيس كلية بابل الحبرية والتي غدت واحة ثقافية غنية. ومن ينسى الأب يوسف حبي المُفكر العراقي، همزة الوصل بين الأديان، وكذلك المطران لويس ساكو والأب المورخ بطرس حدّاد، والمفكر العراقي الأب يوسف توما وشخصيات عدة يطول ذكرها..
لذا ليس من العدل أن يُكنى المسيحيون بالأقلية، قياسًا لما قدموه ويقدموه في مجالات عدة. إنهم برعوا ويبرعون في المجالات المُتاحة لهم، إذ نادرًا وتحديدًا في تاريخنا العراقي المُعاصر أن يُسمح ويتاح لهم الدخول إلى الكثير من المجالات الفعالة، كالعمل التربوي والسياسي. وليس من قبيل المغالاة أن قلت: يصعب على المسيحي اليوم أن يشق طريقه في عراق حكامه لا يمتلكون نظرة شمولية موضوعية منفتحة، وأن إدعو بذلك، لكن الواقع ينطق بعكس ما يتكلمون به! وعلى الرغم من أن الدولة حجمت وتحجم دور المسيحيين، لكهنم نبع معطاء.
وما هي الحلول:
- ليس من المعقول ولا من المقبول أن يُطلق مُصطلح الأقليات على المسيحيين العراقيين أو الصابئة..، لأنهم ليسوا بوافدين على البلد أو دخلاء، بل إنهم سكان البلد القدماء، وهم زارعي بذور حضارته. فمن الغبن تسميتهم باقلية، ونسبة 35 بالمائة من مثقفي ومبدعي العراق هم من المسيحيين!
- إن تهتم الدولة العراقية ومؤسساتها الثقافية بالتبشير بثقافة قبول المُختلف بين مواطنيها وتوعيتهم للقبول بثقافة المُختلف وعدم ألغائه. كما تسعى في وضع مناهج دراسية عن كيفية قبول الآخر وتقبّله في إختلافه وتنوّعه وتعدده وفردانيته.
-إلغاء فقرة ( الديانة - اللقب - القومية) من الهوية العراقية. والسعي للتبشير بمبدأ المواطنة والكفأة، والعمل في مؤسسات الدولة من منطلق أنا عراقي، أستنادًا إلى الكفاءة والتخصص، وليس أستنادًا إلى المحسوبيات الحزبية أو القومية أو المذهبية. من هنا سنتخلص من عقدة الأكثرية والأقلية، سنتخلص من مفهوم الطائفة، القومية، الحزب. وأن لم يحدث هذا سيُردد الجميع: أيتها الأغلبية الساحقة لا تسحقينا!!
أختم بنقطتين، الأولى:أول درس تعلمته في دروس الموسيقى من أستاذتي أن(أُدوزن) آلتي الموسيقية( الكمان) مع الآلآت الآخرى، هكذا نحن العراقيين علينا أن نضبط و نودوزن إتجاهاتنا ونظراتنا، لنتناغم مع الآخر المُختلف، لكي لا نكون نشازًا، فما أجمل أن تكون مُتناغمًا مع الآخر رغم تمايزه وتنوعه، ففي هذا كله يكمن سرّ قوتك ونجاحك وتقدمك وإزدهارك.
الثانية: وأن أجبرت الظروف المسيحيين العراقيين على أن يكونوا أقلية عددية، لكنّ عمقهم التاريخي وعطائهم الكبير ودورهم الإنساني والوطني الفعال في المجتمع لا يتناسب مع تسمية أقلية. إنهم ملح المجتمع العراقي وخميرته، وثقلهم ليس بثقل عددهم، بل بثقل إساهمهم ونتاجهم!
الأب يوسف جزراوي
23-6-2010