لماذا أنا مستمر برسالتي؟!
من كتاب خلجات الذات الجريحة للأب يوسف جزراوي - سيصدر قريبًا
إنتهى قداس الأحد، خرجت لألقي التحية على أبناء رعيتي الصغيرة وأتفقدهم، ونتناول العصرونية معًا مُقربًا بعضهم من بعض. مرّ الوقت على عجل، وبدأت الجموع بالخروج من الكنيسة لخطورة الوضع الأمني، بقيتُ وحيدًا بصحبة مجموعة من شباب الكنيسة الذين كانوا يحرسون الكنيسة مقابل أجور مالية وهم لا يجيدون حمل السلاح! فكنتُ أسهر على حمايتهم، وهم غارقين في نوم عميق!
خرجت الناس من الكنيسة عائدة إلى بيوتها قبل أن يسدل الظلام ستاره، عدت إلى صومعتي وتطلعت إلى مكتبتي الكبيرة وقتذاك، أتصفح هذا الكتاب وأُقلب تلك المجلة، وسط خوف وراشقات الرصاص، وانقطاع التيار الكهربائي المُعتاد. وحيدٌ في ليل نادرًا مما يكون هادئًا، وخاليًا من الطلقات النارية والعبوات الناسفة وأصوت ذئاب الليل! وحيدٌ أنا في ليل ثقيل، في أوج حرارة شهر آب اللهاب، وساعات الليل طويلة قاسية، فأخذت قلمي أُسطر ما يختلج في الأعماق على ضوء الفانوس التقليدي الذي ضاق منه صدري بسبب رائحته الضارة.
من دير إلى دير ومن ديار إلى ديار ومن كنيسة إلى كنيسة .. هكذا كانت أرحالي وتنشئتي وخدماتي، صليت بأكثر من لغة وطقس وليتورجيا، لم أجد ضالتي ألا في لغة الإنجيل وطقوس الحبّ الإلهي. ومع الكتابة وفي التأليف وإلقاء المُحاضرات وأقامة الرياضات الروحية وجدتُ الهوية وراحة الذات وسلام النفس، وفي خدمة الإنسان وجدت الطريق إلى قضية الحياة. بدأت رحلتي مع القلم (الكتابة) منذ أواخر تسعينيات القرن المنصرم . ومع مولد كل كتاب لي أشعر بأنني وضعت بصمة أخرى(ولد أخر) في هذه الحياة. ولكنني أدركتُ أن الإنسان لا بديل عنه. البعض ربّما يجد راحته في وحدته وعزلته ومؤلفاته وبين رفوف مكتبته وأسطواناته(وأضيفوا أنتم ما تستطيبه ذاتكم)، ولكن بعد خبرة سنين أقول وأن كان الإنسان ذاته أعز صديق، لكنه لا يكتفي بذاته، لذا كرّستُ مُحاضراتي وقلمي لحث إنساننا اليوم على البحث عن نصفه الآخر المُكمل له وألا يكتفي بنفسه، فالإنسان(الآخر) لا غنى عنه، لأننا معمولين لأجله(والعكس بالعكس)، إنه عنصر جوهري ومُكمل لحياتنا. وهذه هي وصية الرب لكلِّ إنسان :"ليس حسنًا أن يكون الإنسان وحده فأصنع له عونًا بإزآئِه"(تكوين 2/18 ).
دعوتي دعوة حبّ، ففضلتُ أن لا أحصر حبّي بشخص واحد، بل أوجّهه لمجموعة كبيرة من الناس ( الكنيسة) فأكون أبًا روحيًا للجميع بدلاً من أن أكون أبًا جسديًا لنفر قليل من البشر، رغم صعوبة وخطورة الإختيار ومشقات الدرب.
اليوم أصرخُ إليك يا رب، بعد بضع سنوات جميلة ومريرة من الخدمة والعطاء، من حياة كهنوتية جميلة لم ولن تخلو من المشقات والصعاب والقساوة والأخطاء :
شابٌ أنا يا رب في مطلع الثلاثينات من العمر، لي جسد يناديني كسائر الناس، لي كيان مدعو لأن يلتقي بنصفه الآخر المعمول لأجله، لي عينان بحاجة لمن يبادلها نظرة الحبّ والحنان؛ عينان أشتاقت ليد صادقة تمسح دموعها لحظة تنسال منها الدموع بعفوية. لي يد خُلقتها أنت يا رب لتتشابك مع يد أخرى، ليمضيان للسير معًا في طريق الحياة. صعب يا رب على الإنسان أن تتشابك يده يد عزيز عليه ويفارقها. لي رغبات إنسانية طبيعية أنت خلقتها فيَّ كسائر جميع البشر. صعب عليّ يا رب أن أعطي دائمًا دون أخذ، وصعب أيضًا أن أُبشر بحبِّك وأسند المُحبين دون أن يكون لي حبيب بشري يسندني، أحتفظ به لنفسي، يكملني وأكمله، يسندني وأسنده. ومن الصعب أيضًا على نصفي الآخر أن يجدني ويصعب عليه الإرتباط بي، ليرتبط بنصف آخر غير مناسب لتتبلد بالغيوم حياته!
شاق عليَّ يا رب أن أقول " لا أستطيع" لكل إنسانة تبوح لي بحبِّها، لاقف حائرًا مُعللاً مُبررًا.. وفي بعض الأحيان من دون قناعة، لكن رسالتي وكهنوتي يحتمان عليّ ذلك، وبعضهنَّ يحرجني بتساؤلات: وهل الحبّ مُحرم عليكم؟
أ تعلم يا رب أنني غالبًا ما أُجيب بأمور لستُ مُقتنعًا منها إنسانيًا! صعب يا رب أن أقاسم الآخرين همومهم وأستمع إلى أسراهم وخفاياهم ومشاكلهم، ولا أستطيع مقاسمتهم أسراري، ومعاناتي وصراعاتي البشرية، لان الكاهن لا يفهمه ألا شركاء رسالته. إنه لأمر شاق يا رب أن أكون مثل الآخرين، وأعيش بين الآخرين.. وأن أكون مُختلفًا عنهم في كل شيء. صعب يا رب أن لا يكون لي شخصًا يُكمل ذاتي، لكي أكون كلي للكل، ولكي يكون كل شيء لك وللآخرين. التكريس وبذل الذات شاقٌ والعطاء أصعب.
أ تعلم يا أبتي، يا صديقي الوفي، كم هي سعادتي عندما أسند حبيبين وأرافقهما إلى أن يقررا بُحرية وحبّ ونضوج أن يجتمعا ويعتليا درجات مذبحك المُقدس، تحت سقف كنيستك في أكليل أبدي، ليُكملا مسيرة الحياة معًا بحبّ، حينها يجول في داخلي بعض من التساؤلات الجوهرية: وأنا مع من سأكمل الحياة؟!
يا رب صعب على الإنسان(الكاهن) أن يبقى وحيدًا لمفرده، فالوحدة قاسية. ووسط مُناجاتي هذه، أسمعك تهمس في أذنيَّ:" يا ولدي أنك لست وحيدًا، أنني معك وأنا رفيق دربك وسندك". ولكن يا رب كَم مؤلم على الكاهن أن يسند الآخرين ويجمعهم ولا يرى ويلمس الذي يسنده ويلمس حضوره، فأنت لا يراك بشر. إنها ضريبة الحبّ معك، وما أجمله من حبّ رغم قساوته! آه.. يا يسوع لو تعلم كم حُبّك قاسي وضريبته أقسى، إنه صليب الحبّ!
كثيرًا ما كنتُ أتسأل إبّان خدمتي في بغداد وسط سوء الوضع الأمني ولا زلتُ أتسأل إلى يومنا هذا في ظل الأجواء الغير الصحية التي تسود كنيستي الكلدانية وما ينطوي عليها من صراعات وإنقسامات وتحزبات..!! لماذا أنا مُستمر في هذا الطريق؟! وتستمر هذه التساؤلات التي أطرحها على نفسي ويطرحها بعض أخوتي الكهنة الغيارى وليس الكهنة الموظفين، الوصوليين المُنتفعين، ونتسأل لماذا نحن مُستمرين رغم المثال السيئ من مُعظم الرؤوس العليا وذيولهم؟ لماذا أنا مُستمر رغم قساوة الحياة الكهنوتية وما ينطوي عليها من عزلة ووحدة وعدم إهتمام من الرؤساء وتلونهم وتلون أتباعهم الوصلين، وصعوبة أمزجة الناس؟ في بعض الأحيان أتخذ قرار التوقف، ومواصلة حياتي بشكل آخر، ولكن أشعر بأنني مُقيد بك وحبّك يُكبلني. يا رب هُناكَ شيء يشدني إليك.. لا أعلم ما هو؟! ولا أستطيع تفسيره!! لماذا؟! ما من جواب يشفي غليلي، ومع هذا أنا مُستمر وغيري مُستمر، في طريق مليء بالصعاب والعثرات والأشواك والصراعات والشكوك، لكنّه أستمرارًا يحمل في طياته الرجاء والفرح والحبّ والقناعة، رغم التعب والمعاناة!
يا رب أمكث معنا وسط ظلمات الحياة لكي لا تفتر قلوبنا، أمكث معنا كي نستمر في المسيرة برجاء يُضيء حياتنا. أمكث معي يا يسوع لكي تبقى شمعتي مُشتعلة التي طالما ما حاول الأشرار الذين يدعون القداسة إطفائها، لأنني معارض ومخالف لتوجهاتهم! الطريق شاق ووعر، ورسالتنا أصعب. فمنك دعوتنا وعزائنا وعليك إتكالنا.
إلى متى ستبقى صامتًا يا رب؟ إلى متى؟ أ هو صمت الحبّ أم صمت الحرية؟ قُل كلمتك وغير واقع كنيستك، فقد أشتد ظلام الليل، ولا من فجر يلوح في الأفق؟