نحن نكتشف الحياة
من كتاب خلجات الذات الجريحة للأب يوسف جزراوي
كنتُ في إحدى الغابات وسط هولندا، بصحبة أستاذتي الهولندية الغاية في الإنسانية وصديقها الأفريقي، فطاب لي أن أكتشف المكان وألتقط كعادتي بعض الصور. أستطابت نفسي للمكان لأنني من هواة السير في الغابات والتوغل بها والتلذذ برؤيتها، وأمام شفافية المناظر وجماليتها، قلت لها: كم المساحات الخضراء كثيرة وكثيفة عندكم؟ وكم هي جميلة ورائعة الطبيعة في هولندا ومعظم بلاد أوربا؟ فاجابتني:"وهذا هو سرّ شفافيتنا وهدوءنا، فللطبيعة دورًا وتأثيرًا كبيرين على نفسية الإنسان وشخصيته وسلوكه، لذا تمتع بجمال الطبيعة لتكوّن في ذاتك صور من الجمال والشفافية والإبداع تعكسها في سلوك إنساني راقي". تقدمنا في مسيرنا، فبدأ صاحبنا الأسود يتعقّب حشرة غريبة وكان يسعى أن يضغط عليها بحذائه، ليُنهي حياتها!! صُعقت صديقته( الأستاذة) وصرخت بأعلى صوتها: "كلا..كلا.. توقف رجاءًا، لا تفعل هذا....". وبعد تنهدات قالت له: "ليس من حقك أن تُنهي حياتها، لها الحق في الوجود....لماذا؟ لماذا..؟". ثم رمت نفسها بين أحضانه وراحت تبكي! فعقّب صديقها قائلاً: "أ[color=blue] رأيت أيها الأب، هذا هو تأثير الطبيعة على الإنسان، وكيف شفافية الطبيعة تجعل الإنسان نقيًا شفافًا مُسالمًا، يخشى إيذاء أبسط الكائنات وأصغرها والأكثر ضعفًا.. فضحكنا بشدة، ثم أمطرها بوابل من التعليقات اللطيفة ليحول دموعها إلى إبتسامة، وبدأ يتعانقان برقة ورومانسية..[/color]حينها سحبتُ نفسي وطاب لي التوغل في الغابة والسير بمفردي لأستكشف المكان أكثر، مُستمتعًا بموسيقى الموسيقار الإيطالي Giovani، فأستراحت ذاتي لواحة خضراء فيها شبه ناعور، وبدأت أجمع ذكرياتي وأتمتم مع ذاتي المصدومة: كيف نحن نعامل الإنسان بقسوة وخشونة، حتّى بات الإنسان أرخص الأشياء في بلدي! وكيف هم يعاملون الحشرات والحيوانات برفق وشفافية وإحترام!!
لا حظوا الفرق بين بلداننا وبلدان الغرب: إن معظم الكلاب والحيوانات في بلدي هي حيوانات مُفترسة عنيفة، مُتوحشة، لأنها هكذا تدربت، ولأنها أنعكاسًا لإصحابها. بينما حيواناتهم تمتاز بالألفة والشفافية.. لأنها أيضًا أنعكاسًا لتربية أصحابها. كم هو إحترامهم للإنسان وللكائنات الأخرى كبير وعميق. فلا عجب أن وجدنا في الغرب علاقات أليفة ووطيدة بين الإنسان والكلاب والقطط، وهناك من البشر في مجتمعاتنا لا يعرفون ألا لغة العنف، وصعب أن يتعايشوا فيما بينهم!! واصلتُ السير لإستكشاف المكان والتمتع بما يحيط حولي، لأتوقف بين الحين والآخر هنا وأتطلع هناك إلى تلك الشجرة والنبتة، وأُراقب تحركات السنجاب وأتعقب بعض الفراشات الجميلة التي أرى فيها صور الحرية والشفافية.. كّم كان يطيب لي البقاء لوقت أطول؟ لكن صاحبنا الأسود طالبنا بالعودة على عجل.. وفي طريقنا عودتنا عرجنا على أحد المطاعم، لكنَه أيضًا لم يجعلنا نتهنى بجلستنا ونتذوق طعامنا، لأنه كان من ذوي الإيقاع العجول في الحياة.
أعشق الهدوء والتأني والتمتع بوعي في رؤية الأماكن وإكتشافها والتعرف عليها، ولا أهوى الأستعجال والفوضى والقلق والعجلة في القرارات، البعض تراه عجولاً في كلِّ شيء: طعامه، سيره، طريقة كلامه، قراراته، كتاباته، علاقاته، زواجه، قيادته للسيارة، زياراته، أحكامه....فتأتي النتائج بعيدة عن الطموح والغايات. شكرًا من الأعماق للسلف الصالح على حكمتهم الذهبية: في العجلة الندامة وفي التأني السلامة.
كثيرة هي الأمور التي لا أطيقها في الحياة ومنها: حين يجلس المُحبين، الأصدقاء، المتزوجين.. مع بعضهم، فترى واحدهم ينظر إلى ساعته، أو الآخر يقول: "تكلم بسرعة وقتي محدود. أنا على عجلة، محصور بالوقت". وكذلك هو الحال في الزيارات والدعوات الإجتماعية والعائلية، وفي السفرات واللقاءات و..
كنتُ قبل أيام في روما، ولم يتبقَ لي ألاّ بضع ساعات و يتوجب عليّ الذهاب إلى المطار للعودة إلى هولندا، فعرض عليّ الكاهن الذي كان يرافقني، القيام بزيارة أحد متاحف العاصمة الخالدة روما. فأجابته:عندما تأكل الطعام بسرعة ودون تذوق وهضم، سوف لن تتلذذّ بطعامك وربّما ستُصاب بسوء هضم. أجابني: "واضح .. واضح، وصلت الفكرة"! هكذا هم الكثيرون منا في الحياة، هم أيضًا مُصابين بسوء هضم حياتي، لأنهم يعيشون وكأن الآخر يلاحقهم ويجري خلفهم، فلا يتذوقون جمالية الحياة.
عندما يتكلم الآخر لا تنظر إلى ساعتك، ولا تكن من العجولين. أجعل قراراتك ومواقفك تتخمر جيدًا في أعماقك، وتمتع بوقتك وأعطي لكلِّ شيء في الحياة حقه، لتتمتع بجمالية الحياة والإنسان. فنحن نكتشف الحياة، فلا تكن من الذين يمرون على الحياة مرور الكرام، بل كن من المكتشفين والمستكشفين لها، وتمتع وتذوق جماليتها بحبّ وعمق وليس من منظار الواجب والمجاملة والمُسايرة.
بوسعك أعطاء القيمة والمعاني الحقيقة للأحداث والأشخاص والأماكن والأزمنة، من خلال إكتشافها وتذوق معانيها وما ينطوي عليها من جمال وفوائد. فما قيمة الساعة أن لم ترتديها؟ وما فائدة الحديقة أن لم تعِ جمالها وتستنشق عبير زهورها؟ وما قيمة النصف الآخر أن لم يمسُكَ صميميًا ويشاركك الحياة؟ وما قيمة الذات أن لم تكتشفها وتحققها وتوضفها لخير وسعادة الآخرين؟!
اليوم أصبح كل شيء مُتوفر في الأسواق ألا شيء واحد، وهو الوقت. تمتع بالوقت وأشربه إلى أخر قطرة. وأعطي لكلِّ مفاصل الحياة حقها والوقت المُستحق. حينذاك ستكون من المُبدعين، لان لا وجود لإبداع من دون الإكتشاف والتذوق والوعي، والوعي شمس مُنيرة تستنير بها بصيرتنا.