ا
الصليب
بقلم: الأب بسّام آشجي
إن الصليب هو واقع في حياة كل إنسان، وإن تحاشى البعض تسمية صعوبات وإخفاقات وآلام وظلم الحياة وشرّها وموتها صليباً. ويطرح السؤال نفسه: لماذا؟.. لماذا يوجد الشر؟.. الظلم؟.. الألم؟.. الموت؟..
مهما فسّرنا، وحاولنا فهم واقع الصليب، وكشفنا عن مساهمة الله في هذا الواقع، يبقى الصليب صليباً. التعزية في ذلك، كل التعزية، هوأن الله يحمل في شخص يسوع المسيح المصلوب هذا الواقع. ولكن المشكلة تكمن فيما لو انتهت قصة يسوع عند الصليب، حيث يخبو الرجاء في قوّة الله. لذلك يؤكد بولس الرسول على محورية الإيمان المسيحي في قيامة يسوع، وكأنها تأكيد على انتصار الله في الحق والعدل والمحبة.. إنَّ يسوع المسيح، الذي صُلب وقام، وحده يستطيع أن يغيِّر ويجدِّد جذرياً. والقضيّة أولاً وآخراً فعل إيمانٍ به، وبفاعلية قيامته، وبعمق حضوره المستمر..
هناك أفكار خاطئة عن الصليب، فهو ليس فعل تعويضٍ درامي قام يسوع بتنفيذه لكي يُهدِّأَ غضب الله الثائر على خطيئة الإنسان، يقول الكردينال رََتْزِنْغِر(البابا بيندكتوس السادس عشر حاليّاً): "في نظر العديد من المسيحيين، ولا سيما الذين لم يطَّلعوا على الإيمان إلاَّ من بعيد، يبدو الصليب وَجهاً من وجوه قضية الحق المهضوم والمُعاد. فيكون الصليب تلك الطريقة التي تمَّت بها مصالحة الله المُهان إهانةً لا حدَّ لها ، بتكفير لا حدَّ له... وهناك نصوص عبادة توحي، على ما يبدو، بأنَّ الإيمان المسيحي بالصليب يتصوَّر إلهاً استوجب عدلُه الذي لا يرحم ذبيحة بشرية. ذبيحة ابنه نفسه. هذه الصورة خاطئة بقدر ما هي منتشرة. فالكتاب المقدَّس لا يفهم الصليب وكأنَّه وجه من وجوه قضيَّة الحق المهضوم." .
الصليب هو حركة تضامن إلهي مع واقع الإنسان، المليء بالتناقضات والظلم والقهر وعبودية الشر والموت. لم يحقّق يسوع هذه الحركة بمنطق القوّة والتسلّط والعنف، بل على العكس، فقد حمل هذا الواقع تماماً لكونه إنسان. وندّد به لأنه الله. وصحّحه بموته وقيامته لأنه الاثنين معاً. لم يستطع التلاميذ في البداية فهم حقيقة صلب يسوع، ربما نحن أيضاً لا نفهمها، خصوصاً إذا كنّا لم نكتشف بعد أن الحياة بحدّ ذاتها تحمل صليباً.
"من أراد أن يتبعني، فليحمل صليبه، ويتبعني". لم يقل يسوع في هذه الدعوة: "فليحمل صليبي"، وقد عانى ما عاناه في صلبه ككل إنسان وربما أكثر، لأن الصليب هو واقع في حياة كلّ إنسان كما رأينا، بل قال : "ليحمل صليبه”، ليقول مباشرة: "ويتبعني". أي يتبعني إلى القيامة، هذا هو تماماً معنى اتِّباعه. عندما يشهد جميع المسيحيين بحياتهم للقيامة ينقلب العالم بأسره نحو الفرح والمشاركة والسلام والرجاء والإيمان. فإن كنا نشترك مع كل البشر في واقع الصليب، علينا في اتّباع يسوع أن نشركهم في رجاء القيامة، في "وفرة الحياة" (يو10/10). إذ لا يمكن فصل حقيقة الصليب عن سرِّ القيامة وإلاّ أصبحت الأمانة لله بؤساً والحياة معه جحيماً والموت نهاية.. وما عاد "الله محبة"... يقول اللاهوتي المعاصر كارل بارت:إذا كنّا نؤمن بأن للتاريخ معنى.. ونؤمن أيضاً بالتطور.. وإصلاح المجتمع وتجديده.. ونؤمن بالأُخُوَّة.. وإذا كانت لنا الشجاعة.. فنحتمل القيود والعقبات.. ذلك لأننا نؤمن بالتدبير الإلهي الذي يحطم أقوى القيود.. أعني به : الموت!.. ويقول القديس يوحنّا الذهبي الفم: "إننا نعلم أن إنساننا القديم قد صلب معه ليزول هذا البشر الخاطئ ، فلا نظل عبيداً للخطيئة. فإذا كنا قد متنا مع المسيح، فإننا نؤمن بأننا سنحيا معه. فكذلك احسبوا أنتم إنكم أموات عن الخطيئة أحياء لله في يسوع المسيح" (رو 6/3-11)... لقد قام المسيح وأقامنا ! .. أجل لقد قام المسيح وأقام معه العالم! لقد قام بعد أن سحق قيود الموت، وأقامنا بعد أن كسر قيود ذنوبنا. خطئ آدم فمات، ولم يخطأ يسوع فمات أيضاً: أمرٌ غريب، عجيب!!.. لماذا مات المسيح وهو لم يخطأ؟.. ليستطيع مَن خطئ فمات، أن ينجو من قيود الموت، بمَنْ مات دون أن يخطأ وقام"..
إن الإيمان بقيامة يسوع هو محور الإيمان به : "إن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطلٌ وإيمانكم باطل " (1كور 15/14). وقيامة يسوع هي تأكيدٌ للإيمان بقيامتنا ودعوة رجاءٍ لنا للعيش بإنسانٍ جديدٍ متشحٍ بالمسيح: "وإذا كان رجاؤنا في المسيح مقصوراً على هذه الحياة، فنحن أشقى الناس أجمعين... إنَّ المسيح قام من بين الأموات وهو بكر الأموات. فقد أتى الموت على يد إنسانٍ وعلى يد إنسانٍ تكون قيامة الأموات، وكما يموت جميع الناس في آدم فكذلك سيحيون في المسيح... كان آدم الإنسان الأول نفساً حيَّة، وكان آدم الآخر روحاً محيياً. ولكن لم يظهر الروحاني أولاً، بل البشري، وظهر الروحاني بعده. الإنسان الأول من التراب فهو ترابي، والإنسان الآخر من السماء. فعلى مثال الترابي يكون الأرضيون، وعلى مثال السماوي يكون السماويون. وكما لبسنا صورة الترابي، فكذلك نلبس صورة السماوي.." (18-23 و45-49).
إن الألم، الفشل، المرض، الموت،... وبكلمة واحدة صليب كلّ منّا مسألة صعبة، خصوصاً حين نرتبط بحبّ الله.. لعل خبرة تلميذي عماوس (لو24) مرجعاً لكل إنسان مسيحي مؤمن إن لم يحمله في كل قدّاس لأصبحت مسيحيته قناعاً يُزيّف حياته.