الله لا يدعو قدّيسين.
من كتاب قصص روحية وإجتماعية للأب يوسف جزراوي 2009
تحضرني حادثة مُعبرة جرت في هولندة خريف سنة 2008. آنذاك كنتُ أتلقى حلقةً دارسيةً حول المجتمعات الشرقية. حادثة بقَيت محفورة في ذاكرتي بعد مُضيء أكثر من عام ونيف لما تركت في نَفْسي من بصمات لا تُمَّحى.
أعلن نزلاء إحدى السجون الهولندية الإضراب، فهجموا على الحرّاس الداخليّين وأتخذوهم رهائن وطالبوا الحكومة بالإفراج عن المساجين القدامى، مُهدَّدين بقتل الحرّاس وإحراق المبنى. ضجّت هولندة لهذا العصيان، فكانت المداخلات الرسميَّة لتهدئة الأوضاع، وكانت النداءات مِن جميع الفرقاء لحلّ الأزمة بطرق سلْميَّة إنسانية...لكن جميع المفاوضات باءت بالفشل وتأزّمت الأمور على نحو مأسويّ، فَراح جميع الناس يتابعون الحدث ساعةٌ بَعد ساعة عبر القنوات التلفزيون المحلية.
وإذ بكاهن وهو راهب في الأصل يقدّم نَفْسه ليكون وسيطًا بين الحكومة والسجناء بُغية الوصول إلى حلّ عقلاني متزن خالي من العنف. بَعد ساعات من المُفاوضات خرج الكاهن ومَعه جميع الرهائن معلنًا إنتهاء العصيان وعودة السجناء إلى زنزاناتهم، شريطة العفو عمَّا بَدَر مِنهم وتحسين أوضاعهم المعيشيَّة داخل السجن. هذا ما حصل وعادت الحياة إلى طبيعتها! قصتي لا تنتهي هُنا....لقد أصبح هذا (الكاهن) الراهب بطلاً شعبيًّا في هولندة، وراحت تتخاطفه الإذاعات ومحطّات التلفزة لتفهم منه ما جرى بينه وبين السجناء، وكَيف توصّل إلى حلَّ ، في حين فشل كبار المسؤولين ...!
وقد سنحت لي الفرصة أن أحضر مُقابلة متلفزة أجرتها مَعه إحدى المذيعات، وكان يقوم بالترجمة الفورية لي أحد الأصدقاء الأثوريين الذي كنتُ أُقيم في بيته وقتذاك.
المُذيعة: كَيف أستطعتَ أن تُقنع السجناء بالإستسلام والتراجع عن مطاليبهم..؟ فأجاب الكاهن ببَساطة وإبتسامة رقيقة: " أنا أعرف معظم هؤلاء السجناء. هم زملائي .. كنتُ محكومًا مثلهم وكنتُ سجينًا بينهم لسنوات قليلة. في السجن قرأتُ الإنجيل وتعرّفتُ إلى المسيح، وشعرتُ بأنّه يُسامحني ويدعوني إلى حياة جديدة رغم عدم إستحقاقي. ولّما أنتهت مدة الحُكم خرجتُ مِن السجن وتوجّهتُ إلى الدير حَيث كانت نِعمة الربّ في إنتظاري...".
وأذكرُ أن صديقي وعائلته راحو يبكون... فبكَيتُ معهم بغصّة مِن شدّة التأثّر والعزاء كما لم أبكِ في حياتي قَطّ.
هكذا هي دعوة الرب عطيَّة مجانيَّة من الله دون استحقاق.
الكاهن ليس ملاكًا، أو إنسانًا منزلاً من العُلى أو خارق العادة، لا يتماثّل مع البشر. وليس الكاهن شخصًا لم يعرف الخطيئة وكأنه يسوع المسيح. فالبار يخطأ سبع مرات في النهار بحسب ما يقول الكتاب المُقدّس. قديسون كثيرون كانوا خطأة كبار: مريم المجدلية التي أخرجَ منها يسوع سبعة شياطين، فهي كانت خاطئة من الطراز الأول. والقديس أوغسطينوس الذي كتب عن حياته الصاخبة في ( اعترافاته). وبولس الرسول الذي أضطهد الكنيسة.هكذا أيضًا هو الكاهن، ليس معصومًا من الخطأ. ورغم كل شيء يظلّ الكاهن إنسانًا ضعيفًا، لكنه مدعو لرسالة سامية، ويومًا بعد يوم يكتشف الكاهن كهنوته بنعمة الرب الذي دعاه على علاته ونواقصه وخطيئته.
"لم تختاروني أنتـم، بل انا اخترتكم وأقمتكم لتذهبوا فتثمروا ويبقى ثمركم" (يوحنّا 15:16).