كلام الناس
الأب يوسف جزراوي
فتاة كانت تتعامل بعفوية وتلقائية.. لكنّها تغيّرت وأخذت رويدًا رويدًا تنسحب لتنقطع عن الأخوية. يا تُرى ما السبب؟! فتُجيب عزيزتنا: إنه كلام الناس الذي لا يرحم وما يثير لنا من إحراجات ومشاكل..
كان صاحبنا ولا يزال حذرًا في تصرفاته متوسوسًا من كل حركة ، يعمل لكل خطوة ألف حساب قبل أنْ يخطوها، ولو بحثتَ عن السبب لوجدت أنه يخشى، بل يرتعب من إنتقادات الآخَرين وأقاويلهم! مسكين هو ذلك الإنسان الذي تسيره أراء الناس.
بوسعنا الإكثار من الأمثلة، لكنّنا نكتفي بالإشارة إلى أن عالمنا ولاسيّما مُجتمعنا العراقي كثير الكلام والإنتقادات والتشويهات ، مجتمع يتكلّم دون حدود و ضوابط. ولا يخُفى على أحد بأن هُناك فئة موجودة في كل زمان ومكان تُراقب الآخَرين وتبحث عن أخطائهم وتتلذذ بإشهارها بعد إضافة (الملح والفلفل) كما نقولها في لهجتنا العراقية. فئة تعمل من ( الحبة كبة) . ونحن كعراقيين مشهورين بكثرة إنتقاداتنا لغيرنا، إن لم اقل أننا بارعين في إكتشاف عيوب الآخَرين والحديث عنها، فواحدنا ينتقد غيره وكأنه بلا عيوب. حقيقةً إنَّ كلُ منّا مبتل بنفس الداء الذي يراه في غيره!
مَن لديه هذه الروح ، فهو ليس بإنسان سوي ( سليم) ، بل هو يعاني من عقدة نقص في داخله ؛ عقدة تدفعه لينظر إلى الأسْوَد قبل الأبيض . ولا أتردد في القول ان الذين يترصدون أخطاء الناس ويعملون على نشرَها وتضخيمها هم (أشخاص عطالون بطالون) وما أكثرهم اليوم!!
ولا أعلم لماذا يميل البعض وربّما الأكثرية من الناس لمثل هذه الأساليب الملتوية التي فيها ما يشوه صورة الآخر وينافي شريعة الله؟! . أليس في هذا حكم ودينونة ؟ ومَن مِنّا نحن البشر له الحق في الحكم والدينونة ، فهذا عمل الله وحده ، وعلينا أنْ نبقى ناس - بشر لا أكثر ولا أقل . ولكن من مفاعيل الخطيئة أصبح الإنسان يُشاهد عيوب الآخَرين ولا يشاهد عيوبه ونواقصه . فآدم لا يعترف بخطيئته أمام الرب الإله، بل يرميها على حواء . فقال آدم : " المرأة التي جعلتها معي هي التي أعطتني من الشجرة"(تكوين3/12).
مُشكلتنا الأزلية
من مشاكلنا الأزلية هي الكلام عن الآخَرين وإنتقادهم من ورائهم وليس أمامهم وجهًا لوجه. فالشخص الذي قد أتخذ من الإنتقاد والتشويه حِرفة له، هو إنسان ضعيف لا يستطيع المواجهة . ويصفه الأب جان باول اليسوعي في كتابه حبّ بلا شروط : " إنه لا يستطيع أن يفيد من مقدرته، لأنه جبان في العمق، وهو يحزن على نفسه لأنَّه لا يستطيع أنْ يبلغ أهدافه؛ لذا يحاول أنْ يقوي ثقته بنفسه عن طريق الحط من قدر الآخرين. فهو يرى من الأسهل أنْ يحط الآخرين إلى مستواه من أنْ يرتفع هو إلى ما هو عليه". من هذا سيتضح للقارئ الكريم أنَّ مثل هذا النوع من النفسيات يُعادي الأمتياز في كل أبعاده وصوره أكان عملا ناجحًا أو موقفًا جميلاً أو شخصًا مميزاً .
إنَّ هذه النماذج من النفسيات تدلّ أنها لا تمتلك قضية حياة تُميّزها لَتتَمَيز بها. إنها لم تضع بصماتها على نفسها، لذا تراها تعيش في فوضى حياة فاشلة نابعة من فراغ حياتي، وهي في أول الأمر وآخره نكرة بين البشر. ولنتسأل: هل دعوتنا أن نكون أناس أرقام أم تميّز وإبداع؟
غالبًا ما لا يستطيع الناقد المغرض الوقوف أمام النماذج الناجحة والمتميزة من دون نجاح وتمييز يوازيهما ، لذا يجد صاحب هذا الداء أنَّ الطريق الأسهل إلى ذلك هو النقد الهدام وخلق أكاذيب في محاولة لتشويه الصورة وأن يُلغي قيمتهم الإجتماعية ويهز تلك الصورة الجميلة المأخوذة عنهم، مُسببًا إلأذى النفسي والإجتماعي لهم من خلال إطلاق العنان لإشاعات وتضخيمات وإختلاقات لا صحة لها!إنَّها الغيرة وثم الغيرة وثم الغيرة التي تدفع بالآخَرين لتشويه صوَرَنا ولاسيما أولائك الذين يشعرون بفراغ ونقص كبير في داخلهم وفي حياتهم، ناهيك إذا كنت سببًا في كشف حقيقة هؤلاء، فيبدءون بمحاربتك من خلال إطلاق إشاعات عنك لا صحة لها في ارض الواقع .
أحكام مسبقة
من أتعس الأمور هي الأحكام المسبقة ، فإننا في الغالب نتّجه نحو الآخَرين ونحن محمَّلون بأفكار وأنطباعات وصور مسبقة عنهم فنحجمهم ونقولبهم بقوالب ونظرات ثابتة متحجرة أعتمادًا على ما سمعناه من فلان وفلانة عنهم. فتتكون لنا ردود أفعال سلبية عنهم دون التماس معهم في علاقة مباشرة.علينا أنْ نعيش مع الآخر لنكتشفه، وليس نتصوره أعتمادًا على ما سمعناه عنهم ، وإلا نكوّن عنهم صورة أستنادًا لأقاويل الآخرين، وأحكامنا أنْ لا نبنيها على القيل والقال. صدقوني إنَّ الأحكام المسبقة تسقطنا في فخ الإنتقادات السريعة والتناقض في إنطباعاتنا وأحكامنا على الآخر. وما أحوجنا اليوم لكي نكون دقيقين في أحكامنا وإلاّ نبنيها على القيل والقال.
كلامهم لا يرحم
نصحتهُ مرارًا وتكرارًا أن يُقيم حفله زواجه ( حفلة كوكتيل) على البساطة مقتصرة على الأقارب وبعض الأصدقاء لأننا في غربة وظروف صعبة ولكونه هو ذو امكانية مادية محدودة. لكنه رفض النصيحة بحجة ( سوف تأُكل الناس وجوهنا) فاقاموا أفخر حفلة من أجل إرضاء الناس إن لم أقل خوفًا منهم ليغرقوا أنفسهم في الديون! كثيرون هم على هذه الشاكلة، يخشون أقاويل الآخَرين حتى باتوا يضعون في حساباتهم ردود أفعال الناس قبل أية خطوة يخطونها في الحياة .وللأسف أصبحت اخلاقيتنا وتصرفاتنا مبنية على كلمة (عيب) (ماذا ستقول الناس عنّا؟) أو( الناس ستتكلم وتنتقد) وإلى آخره من المخاوف. إنها مخاوف تقلقُنا وتُقيدنا وتشلُّنا .ولا مغالاة إن قلت: إنساننا اليوم صار يخشى كلام الناس أكثر من أي شي آخر، لان كلامهم لا يرحم!
لم يبقً أيام على زواجهما، ألا أنه فأجا الجميع وأعلن (فسخ) الخطوبة وأوقف الزواج، خوفًا من كلام الناس لأن أختها تعيش مع صديقها في إحدى دول أوربا، مرت الأيام ليرتبط بإنسانة أخرى ليرضي الناس، فعاش بجحيم لا يعرف كيف الخلاص منه!
أؤمن أن الناس لا ترضى عن أي إنسان ، فهم يتكلمون عن الزين والشين. حتى بات الواحد منّا محتارًا في أمره. فاذا كان رزين جدي ينظر إلى الحياة بجدية ومسؤلية وعمق، قالوا عنه: ( مُعقَّد). وإذا كان فكاهيًا ذو روح مرحة، قالوا عنه ( خفيف سطحي) أما إذا تعامل مع الحياة ببساطة وطيبة ووداعة .. قالوا عنه: ( غشيم). فما أكثر الكلام وما أقساه. علمًا أنَّ ربّنا خلقنا بلسان واحد وأذنين؛ بمعنى لنصغي أكثر مما نثرثر. ولكن العكس هو الحاصل على أرض الواقع .
أخيرًا وليس آخرًا....إنْ تَضعَ كَلام الآخَرين في حساباتك فهذا يعني أنَّك ستُتعب نفسك عبثًا وستضيَّع الكثير والكثير من الوقت والجهد فراغًا. ومن خبرة كهنوتية متواضعة أبوح علنًا: إنَّ الناس تتكلم عن الله وعن عبد الله. فلو كنت قديسًا أو الهًا .... فلابدّ من انك سُتضرب بحجر إنتقادات الآخَرين كما حدث لمعلمنا يسوع له المجد، لذا ثق بنفسك وتصرف بحرية أبناء الله ، وليقل الآخَرين ما يشاؤون، فليس كل ما يُقال هو صحيح. وإزاء إنتقادات الناس وتشويهاتهم أدعوك للتعامل بخلق رفيع وبروح الإنجيل،بحيث لا تتوتر وتنفعل، بل ضع أعصابك في ثلاجة وتجاوز الموضوع بقلب كبير وعقل أكبر وروحية طيبة. ولنتخذ من الرب يسوع المسيح له المجد مثالاً لنا. فأبناء عصره إنتقدوه وحاربوه ونعتوه بكلمات قاسية مطلقين عليه إشاعات كاذبة مُغرضة وأخيرًا صلبوه!
ما اروع وأعمق حكمة السَيّد المسيح في درس الدينونة: لا تدينوا لكي لا تدانوا.. إنها دعوة لمحاسبة أنفسنا قبل التهجم والتسرع في مُحاسبة الآخَرين . إذًا لا نحكم على أحد ونثرثر في ظهره..لأننا لا نعلم ما يختفي داخل الإنسان فهذا عمل الله وحده. ولا أجمل من لقاء مصارحة بنّاء مع الآخر وجهًا لوجه، أفضل من الطعن في الظهر والتشويه، لأن ربّنا يسوع له المجد علمنّا أنَّ بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم ويُزاد.