الموسيقى فن الإبداع
"الموسيقى هي دورة الدم في قلب الكون "شوبنهور.
عندما يقرع جرس ساعتي في الصباح، أنهض من فراشي لأسكته. وفي هذا النهوض فرح داخليّ يغمرني، فأنا ما زلتُ حيًا، وما زالت الحياة تشعر بوجودي، فأشعر بقيمة ونعمة الحياة الجميلة من جديد، فأفتح ستائر نافذتي لتغمرني الشمس بأشعتها ونورها، فيتنور الذات بها. وبحسب عادتي اليومية أبدء يومي بشاور صباحي بارد، ثم أحتسي القهوة الصباحية وأستمع لموسيقى هادئة وأحيانًا لبعض أغاني فيروز الرائعة، وأنظر من خلال النافذة وأتطلع إلى الحدائق المُحيطة بمنزلي، فأفتح الذراعين، بل الذات بأكملها وأقول ببحة صوت ملؤها الأمل: شكرًا يا رب على نعمة الحياة. وأشق طريقي للذهاب الى دراستي وأنا أتمتع بموسيقى الموسيقي أنور أبو درع..
أعشق الموسيقى وأطرب بالاستماع إليها، ولا أستطيع أن أكتب كلمة دونها. في الغرب كم من دار أوبرا موجود، إذ في كل مدينة يوجد أكثر من متحف وأكثر من مركز لسماع الموسيقى والمعزوفات الحية، أقله يوجد( كوفي ميوزيك) ناهيك عن دار الأوبرا. ولا حظوا أيضًا نحن كم مقهى (شاي خانة) لدينا؟ وكم هي كثيرة أيضًا أسواق الكرزات وصالات التسلية عندنا؟ وكم نادرة هي دور الموسيقى والثقافة في العراق؟! كنتُ وما زلتُ من المولعين بالموسيقى، ولي محاولات صغيرة في العزف على ألتي الكيبورد( الاورغون والكمان) لكنّها لا تتعدى المُحاولات الفاشلة، فكنتُ أذهب بمفردي إلى أحد مراكز الموسيقى كل يوم ثلاثاء للأستماع..فأرى القاعة غاصة بالزوار،قصدوا هذا المركز للراحة وطلب الهدوء والتأمل.
اليوم وبفضل بعض الأصدقاء الهولنديين تعرفتُ على قاعات للموسيقى التي وجدت فيها ضالتي،إذ ينسى الإنسان فيها ذاته، ليحلق في عالم الموسيقى الذي يقود النفس إلى الرب.
في إحدى الأيام دعاني مجموعة من الأصدقاء والصديقات الأسبان إلى أمسية غنائية في وسط هولندا، فرفضت الدعوة للوهلة الأولى لأنني ظننتُها شبيهة بحفلات أبناء شعبي، حفلات ينتابها الرقص والمشاكل والإفراط بالمشروبات الكحولية..والضجيج والصخب، بحيث أنك تكاد أن تسمع الشخص الجالس بجوارك! وبعد إلحاح شديد لبيت الدعوة، وهناك كانت دهشتي الكبيرة! حين وجدت ما يقارب الـ(300) شخص وهم جالسون يصغون ويستمعون تارة للعازف وتارة أخرى للمطرب وأرواحهم مشدودة إليه! وفي أعلى القاعة لوحة كبيرة كتب عليها:" أنها الموسيقى التي تعلمنا فن الإصغاء". قلتُ في سرّي: الآن علمت السبب الذي يجعل الكثيرين في بلدي أن يقطعوا كلام المُتحدث أو المُتحاور معهم قبل أن يُنهي فكرته أو الإنتهاء من أيصالها لهم.
هُناك من الناس يقطعون حديثك ويقولون لك في تحاورك معهم: "فكرتك واضحة، مفهومة الفكرة.." لكنّهم لم يفهموها، لانهم كانوا يحضرون لك جوابًا مُناسبًا، وأن انفتحوا بالكلام وأبتدئوا به، فلن يتوقفوا أبدًا وكأنهم يتحاورون مع أنفسهم وليس مع الآخرين.
ولا مغالاة أن قلت: إن مُشكلة الكثير منا أنهم لا يستطيعون السكوت والدخول في عالم الصمت الباطني والأصغاء الحقيقي. فمُعظمنا يجيد السمع ولا يجيد الإصغاء. يجيد التحدث والثرثرة ولا يجيد الإصغاء، علمًا أن الرب وهبنا لسان واحد وأذنين، لكي نتكلم قليلاً ونصغي كثيرًا، ولكن العكس هو الحاصل على أرض الواقع.
في منتصف القرن الماضي الى أواخر السبعينيات منه، لاحظوا أن الفترة الزمنية لاغاني أم كلثوم ، عبد الحليم حافظ ، ناظم الغزالي مائدة نزهت..والأسماء كثيرة، كانت تتجاوز الساعة وربّما ساعات، والحضور جالس يستمع ويتأمل وينطرب لها، والألحان هادئة بطيئة عميقة، تُطرب سامعها وتريح ذاته وتزيل عنه كل ما يُعكر صفوة النفس.أمّا اليوم فالغالبية العظمى من الأغاني والأمسيات، لا تحتوي على موسيقى، بل فيها صخب ونشاز وإيقاعها سريعة تعكس إيقاع هذا العصر، وكلمات تخدش الأذان وتبعثر الروح. إنها أغاني ومعزوفات قد تُحرك الجسد، لكنّها لا تمس الإعماق ولا تطرب النفس.
للموسيقى دور في إنسنة الإنسان وروحنته. الموسيقى الهادئة العميقة طريق الإنسان إلى الشفافية والرقي في التعامل مع الآخر، فهي ذات تأثير كبير وعميق على الإنسان وروحيته وسلوكه وفكره، فالموسيقى تولد في أعماقنا الإبداع وعلى صعد عدة.
الموسيقى دخلت في علاج الكثير من الأمراض النفسية، علاوة إلى أنها تعمل على صفاء الذهن وإزالة الشد العضلي والعصبي الموجودان بالجسم نتيجة لأمور الحياة المُجهدة. كما تعتبر الموسيقى الهادئة من إحدى الوسائل التي تساعد على تهيئة نفسية الإنسان للصلاة.
قل لي هل أنت من مُحبي الموسيقى وسامعيها، سأقول لك من أنت؟ وقل لي أيضًا أي نوع من الموسيقى تسمع، سأقول لك من أنت؟
وفي ختام هذه الخلجة أذهب للقول:خصص لك دقائق صباحية للإستماع إلى الموسيقى، وخصص لك أيضًا قلما يكون ربع ساعة أو أكثر للإستماع للموسيقى ليلاً، ففيها استرخاء للذات، استرخاء يجعلك تتحس جمالية الوجود. ومن خبرة شخصية أبوح لك بثمة قناعة مهمة: الموسيقى زاد لحياتنا، لأنها فن يجعلك تتحسس معاني الوجود في أعماقك وفي ثنايا الحياة. فكن من مُحبي هذا الفن(الموسيقى)، حينها ستتذوق طعم الوجود وستكون من مُحبي الحياة ومن صانعيها.